الاثنين، 28 ديسمبر 2009

قراءة لمسألة البرادعي.


منذ اليوم الاول الذي ترددت فيه انباء عن نية الدكتور محمد البرادعي  ترشيح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية حتى قامت الدنيا في مصر و لم تهدأ , و بين مؤيد و معارض و متسائل و مضلل بكسر اللام و فتحها , صار الدكتور البرادعي مثار العديد من التساؤلات و موضوعا اساسيا للعديد من المناقشات في الاوساط السياسية و غير السياسية في مجالس المصريين . و صارت صحفنا اليومية - قومية منها او معارضة او مستقلة – تخرج علينا بمقالات عن تلك المسألة التي ستظل تشغل بال المصريين لوقت ليس بالقليل .
و لمسألة البرادعي العديد من الجوانب التي يجب علينا تحليلها تحليلا دقيقا لنفهم طبيعة الموقف و طبيعة و غاية ردود الافعال المتعلقة به و يمكننا تقسيم تلك المسألة الى عدة مراحل هي :



اولا : ما قبل بيان البرادعي .
قبل صدور البيان الرسمي الذي يوضح رأي دكتور البرادعي في مسألة ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية كانت قد اعلنت بعض اصوات المعارضة المصرية عن رغبتها في ترشيح البرادعي لنفسه لارفع مناصب الدولة و اهمها , وقتها لم يكن الرأي العام قد اهتم اهتماما كبيرا بالموضوع لعدة اسباب منها : ان البرادعي نفسه لم يكن قد اعلن عن نواياه تجاه مسألة ترشيحه , ان المؤيدون لهذا المشروع لم يكن لأي منهم اي تصرفا ايجابيا تجاه جذب اهتمام الرأي العام و اخيرا لان ردود الافعال الرسمية التي تصلنا من خلال تصريحات رجال الحكومة و مقالات كتابها من صحفيي الصحف القومية لم تكن قد اهتمت بالموضوع على القدر الكافي . و لم يكن تردد اسم البرادعي على مسامع المصريين بالجديد بل اغلبنا يعلم من يكون الدكتور البرادعي بحكم منصبه كرئيس لوكالة الطاقة الذرية و ان كان اغلبنا ايضا لا يعلمون حتى تلك المرحلة على الاقل من يكون الدكتور البرادعي سوى ذلك , و لكن بطبيعة الحال اهتمت اصوات المعارضة بماضي و تاريخ الرجل رغم تقصيرهم الشديد في مسألة التعريف به لعامة الشعب المصري .
يأتي اهتمام المعارضة المصرية بترشيح البرادعي نظرا لاسمه قبل تاريخه بل ان بعضهم على ما اظن كان جاهلا بتاريخ و سمعة الرجل , و لكن وجدت المعارضة في البرادعي النموذج الامثل للترشيح لذلك المنصب و ذلك لما له من خبرة سياسية لا يستهان بها نظرا لمنصبه السابق و دراسته و تدريسه للقانون الدولي بالاضافة الى مواقفه القوية التي اظهرت ما للرجل من شخصية شديدة القوة و التأثير و الاحترام , بالاضافة الى تأثره بالافكار و التجارب الليبرالية التي تمثل محورا هاما للاصوات المطالبة بترشيحه , و لكن ما المحرك الرئيس الذي دعا الليبراليون و من وراءهم بعض احزاب المعارضة لترشيح الرجل في ذلك الوقت تحديدا فهو ما لا نعرفه حتى الان , فلم تكن الفكرة مجرد فكرة رجل واحد صحى من نومه فجأة ليكتشف ان البرادعي احد اهم الاسماء التي تستحق الوصول لذلك المنصب و لم تكن فكرة جماعة بعينها كانت جالسة على احد مقاهي القاهرة لتكتشف فجأة ايضا ان البرادعي شديد القرب من قلوب الشعب المصري ليدعوا  لترشيحه لمنصب الرئاسة , كما ان موقف البرادعي في تلك الفترة و انتظاره و ترقبه طويلا قبل اصدار بيانه هو ايضا امر يدعو الى التساؤل , فهل كانت الفكرة حقا فكرة رجل او جماعة ام انه هاتف سماوي هبط علينا فجأة ام ان البرادعي نفسه قد قام بتسريب او لنقول بتحفيز البعض على طلب ترشيحه و جلس يترقب الموقف من بعيد ام ان الموضوع كان قد دبر له من احد الاطراف و اقحم البرادعي في الامر كأسم حقا يستحق ان يتولى ذلك المنصب الاعلى ؟
اما الحكومة في تلك الفترة فكان موقفها موقف لاعب الاحتياط الذي يجلس على الدكة منتظر الوقت المناسب لينزل الى ارض الملعب و يقول كلمته , فبين الانتعاش الذي تعيشه الرئاسة و الحكومة بسبب ما حدث في السودان من احداث اعقبت مباراة مصر و الجزائر في تصفيات كأس العالم و التي ادت بدورها الى زيادة ثقة الشعب في حكامه و زيادة شعبية علاء و جمال مبارك و بين ظن الحكومة ان الامر لا يتعدى كونه مجرد مطالبة بترشيح لاسم من العديد من الاسماء التي ظهرت على الساحة تباعا و على فترات متباعدة مثل ايمن نور و عمرو موسى و غيرهم , و بين الترقب لأي كلمة يقولها البرادعي ليشرح بها موقفه كانت الحكومة كما ذكرت سابقا غير مهتمة باصدار تصريحات رسمية او غير رسمية في تلك المسألة .

ثانيا : بيان البرادعي .
خرج البيان الرسمي الذي اصدره الدكتور البرادعي من مكتبه بالنمسا علينا ليقطع العديد من التكهنات المتعلقة بالأمر . و كان البيان المقتضب القوى الذي يتكون من مقدمة و خاتمة و ثلاث نقاط يعد توضيحا لموقف البرادعي مما اسماه هو بالتوجه الشعبي الذي يدعوه لترشيح نفسه لمنصب الرئاسة . و يمكن قراءة البيان بضغطة بسيطة على اي محرك بحث من اي كمبيوتر مما يعني اننا لسنا بصدد اعادة كتابته و انما ما يشغل بالنا هو تحليل ما جاء بين فقراته و طياته .
اولا : جاءت الفقرة الاولى لتعبر عن توجهات البرادعي الديموقراطية حيث اشار الى رغبته في ان تجرى الانتخابات تحت الاشراف الكامل الغير منقوص للقضاء بالاضافة الى وجود مراقبين دوليين من هيئة الامم المتحدة لضمان سلامة العملية الانتخابية و هو ما يتبع على حد قوله و حد علمنا في معظم الدول الديموقراطية حول العالم كما اشار الى اهمية اتاحة الفرصه لكافة المرشحين من طرح افكارهم و برامجهم من خلال وسائل الاعلام و هو ايضا ما نجده خلال متابعاتنا لأي عملية انتخابية في اي من دول العالم المتقدم , اذا فلم تأت الفقرة الاولى بما هو غريب عن اسماع الطبقة المثقفة او المطلعة في مصر بل جاءت واضحة و صريحة و لا يمكن لأي فرد او جماعة او حزب ان يعترض عليها و الا سيصبح كمن يقول " نعم انا اعرقل الحركة الديموقراطية كما انني ارفض ان تكون الانتخابات نزيهة " اما فيما يتعلق بالاشراف الدولي فهو ما يمكن ان يتهامس حوله البعض من اصحاب فتاوى منع التدخلات الاجنبية في الشأن المصري و هو ايضا ما يمكن التغاضي عنه من اصحاب نفس الفتاوى اذا اعلنت الامم المتحدة نيتها في الاشراف على العملية الانتخابية في مصر .
ثانيا : جاءت الفقرة الثانية حاملة لاولى المفاجأت او القنابل التي احتواها هذا البيان و كانت تلك الفقرة بالاضافة الى الفقرة الثالثة هما اللتان سببا حالة الهياج و التخبط التي اصابت الحكومة و كتابها . فبعد ان اشار البرادعي الى انه لم يكن يفكر في ترشيح نفسه و انما ان كان سيفعل ذلك سيكون بناءا على طلب هؤلاء الذين طالبوه بالترشح , اعلن الرجل صراحة انه لا ينوي الانضمام لايا من الاحزاب بل يريد كما اشار ان يكون رئيسا توافقيا يلتف حوله الجميع و سيتطلب ذلك ازالة كل العراقيل الدستورية و القانونية التي تعرقل ترشيح المستقلين و تعرقل بالتالي حق الاغلبية العظمى على حد قوله من اختيار حاكمهم , و تأتي الكلمات الاخيرة الى رغبة البرادعي في تغيير الدستور المصري ليلائم ترشيحه و هو ما اثار اصوات الحكومة ضد الرجل اثارة سنتحدث عنها لاحقا .
ثالثا : كانت الفقرة الثالثة اعلانا صريحا اخر عن ما قد يفعله البرادعي اذا ما تولى منصب الرئاسة فعليا ليضع بكلماته عدوا اخر غير الحكومة و هو اصحاب الذقون السياسية " الاخوان المسلمون و اتباعهم " فقد اشار البرادعي الى نيته وضع دستورا جديدا يقوم اساسا على بناء مجتمع مدني معاصر يقوم على الافكار الليبرالية المدنية من حماية حقوق الاقليات و حرية التعبير و تداول السلطة , ليؤكد البرادعي ايمانه العميق بالافكار الليبرالية التي من المؤكد ان تواجه اعصارا شديدا من اصحاب الاسلام السياسي كارهي عبارة الدين لله و الوطن للجميع !!
و بعد ان اشار البرادعي مرة ثانية في خاتمة بيانه الى رغبته الشديدة في اقامة مجتمع عادل يقوم على الافكار و المباديء الليبرالية مشيرا الى نيته الحقيقية الى ترشيح نفسه للرئاسة اذا ما توافرت الشروط او الاقتراحات التي وضعها , اختتم البرادعي بيانه و عاد الى صمته و ترقبه و مشاهدته لحالة التخبط - الغير طبيعية و ان كانت مبررة - من الحكومة و رجالها .

ثالثا : ردود افعال ما بعد البيان .
جاءت ردود الافعال متباينة متضاربة بين المعارضة و الحكومة , فصاحت الاصوات الليبرالية في مصر مهللة منتشية لما جاء في البيان و اعتبره البعض حلما ليبراليا سيتحقق فقط على يد هذا الرجل . اما الحكومة فركزت تعليقاتها من خلال كتابها من رؤساء تحرير الصحف القومية على نقطتين :
الاولى هي استغلال جهل الشعب المصري بتاريخ البرادعي فركزت على ان الرجل يجهل العمل السياسي و غير مؤهل على الاطلاق لكي يتقلد مثل ذلك المنصب الارفع و الاسمى في مصر , و تكررت تلك الكلمات في كل مقال و على كل لسان من الالسنة الرسمية و غير الرسمية كما جاء على لسان د. مفيد شهاب في احدى تصريحاته من انه يجل و يعتز بالدكتور البرادعي ( كعالم مصري !! ) جليل و لكنه يعتب عليه رغبته في التدخل في العمل السياسي رغم عدم درايته و معرفته به , و سواء كان شهاب يستغل جهل الشعب كما ذكرنا بتاريخ الرجل او انه هو نفسه يجهل تاريخ الرجل ففي الحالتين ستحسب كلماته عليه كتضليل للرأي العام المصري .
النقطة الثانية هي التركيز على ما جاء في الفقرتين الثانية و الثالثة من بيان البرادعي , و ذكر كتاب الحكومة في صحفهم من انه كيف يمكن للبرادعي ذلك الرجل الذي يجهل العمل السياسي , ذلك الرجل صاحب الجنسيتين , ذلك الرجل الذي صار فجأة و بقدرة قادر خائن و عميل امريكي , من ان يتدخل في الشأن الدستوري المصري و يطالب باحداث تغيير كامل للدستور . رغم انهم هؤلاء انفسهم هم من روجوا و هللوا و سوقوا للتعديل الدستوري الذي اقترحه الحزب الوطني و وافق عليه مجلس الشعب الموقر من قبل , و رغم انهم كانوا يتسابقون في التفاخر و الحديث عن البرادعي كرمز مصري جليل يجب تقديره و احترامه و وصفه برجل الساعة الذي تحدى الامريكيين و وقف بجانب العرب , هم انفسهم من يصفونه الان بالعميل مزدوج الجنسية و الانتماء الدخيل على الشأن المصري و ادركوا فجأة انه لا يعرف شيئا عن مصر او المصريين و كأنه لا يوجد وزراء و نواب لا يحملون اكثر من جنسية و كأنه يوجد حقا من يعرف شيئا عن مصر او عن المصريين منهم او ممن يحكموهم .
و بهذه التصريحات و بهذا الهياج و بهذا التخبط اعلنت الحكومة صراحة عن خوفها من ان يسعى البرادعي حقا الى ترشيح نفسه للرئاسة و اعلنت عن خوفها من سماع كلمة ديموقراطية او مدنية و كأن تلك الكلمات اشباحا او عفاريت قد تصيبهم بحالة من المس و الجنون , و اعطت للمعارضة فرصة ذهبية لاستغلال الموقف لصالحها اذا ما قامت بالترويج الصحيح للبرادعي و تسويق قضيته و فضح الاعيب الحكومة و تلاعبها بالرأي العام و استغلال جهله , و اعطت للبرادعي نفسه الفرصة في ان يجمع حوله العديد من اصوات الشعب المصري الراغب في التغيير حتى و لو لمجرد التغيير , و اعطت للاخوان المسلمين فرصة العودة الى ارض الملعب و المشاركة كلاعب اساسي قد يمد لها يد العون في الوقوف امام الليبرالي البرادعي , و اعطتنا نحن ايضا الفرصة في ان نتخذ الموضوع كطبق رئيسي على مائدة الاحاديث المصرية التي لا تنتهي .

ليست هناك تعليقات:

Facebook Badge