الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

المقنعون ( 1)

 

ارتدي جلباب قصير , تتدلى لحيتي الى حيث صدري , لا تفارق المسبحة يدي , و لا تفارق ايات القرآن و احاديث النبي لساني , اقابلك دوما بنظرات ورعة و ابتسامة بريئة . انا اذا احد رجال الله , هؤلاء الذين يستحقون الثقة , كل الثقة في ان تستمع اليهم و تنقاد بهم و تسلمهم عقلك و مالك .

هل اقتنعتم بي ؟؟

حسنا , ان اجاب احدكم بنعم فعليه ان يفكر تارة اخرى . فتلك الصور النمطية التي نراها في الافلام او نقرأ عنها في الاعمال الادبية و التي قدمت لكم احد امثلتها منذ سطور قليلة , علينا الا نتناولها في الحقيقة ذات التناول في المؤلفات , فعندما يقصد مؤلف عمل كلاسيكي ان يختار صور نمطية ( stereotype ) لشخصياته فانه يريد ان يُثًبَت صورة محددة لتلك الشخصية لدى القاريء , تعتمد على الوصف الشكلي المظهري دون الداخلي , مما يلقي في عقل القاريء و نفسيته توقعا يكاد يكون اكيد تجاه تلك الشخصية و تصرفاتها على مدار المُؤَلف الادبي  . فعندما وصف شكسبير على سبيل المثال شخصية  " شايلوك " التاجر اليهودي المرابي في تحفته ( تاجر البندقية - Merchant Of Venice ) كان يكفيه ان يقول المرابي اليهودي حتى يلقى في نفوس القراء توقعا لمدى بشاعة تلك الشخصية , و الذي يظهر جليا عندما تم تقديم تلك المسرحية على المسرح او من خلال شاشة السينما , فلقد كان المجتمع الانجليزي انذاك مجتمعا شديد الانغلاق على نفسه , رافضا نابذا لكل ماهو غير مسيحي , و كان يملك صورة نمطية لكل ماهو يهودي , فاليهودي بالنسبة له متزمت .. مخادع .. يشتغل بالاعمال الدونية , و قد نقلت تلك الصورة – التي لا تزال مستمرة ليومنا هذا في الدراما العربية -  الى العالم اجمع انذاك , مما ساعد شكسبير على رسم تلك الصورة لذلك المرابي و ساعده اكثر على اقناع القاريء و المشاهد بطبيعة تلك الشخصية دون غوص لا حاجة له في تعقيداتها الداخلية .

حين يأتي الحديث عن الواقع الحياتي علينا ان نتعامل مع الصور النمطية معاملة شديدة الاختلاف , شديدة الخصوصية . فلا يجب علينا ان نتوقع طبيعة الشخصية من مجرد صورة لها خلفية مسبقة داخل عقولنا الباطنة , و لكن الحقيقة التي تحدث في مجتمعنا شديدة الاختلاف عن تلك النصيحة , فلا يزال افراد المجتمع المصري يعتمدون على المظهرية و الصورة النمطية او حتى مجرد صفة  ليحكموا على اشخاص و يحاكموا اخرين , يهاجمون اشخاصا و يدافعون باستماتة عن اخرين . فظل مجتمعنا اسيرا لتلك الصور التي قد تعكس حقيقة صاحبها فعليا و قد لا تمثل ايا من الصفات التي يتمتع بها صاحبها في الواقع , و تلك هي ازمة الصورة النمطية عندما نواجهها في الحياة الواقعية . و دعوني اولا  لتوضيح المسألة ان اطرح عليكم بعض الامثلة على سبيل المثال لا الحصر لتلك الصور و الفكرة المسبقة لدى البعض عنها :

-          الفتاة المسلمة غير المحجبة :  غير ملتزمة – غير محترمة – تعطى الاذن للجميع للتحرش بها بالقول او الفعل .
-          المسيحي : لا يؤتمن من قبل المسلم – جبان – يكره المسلمون – ضعيف .
-          الملتحي المتشدق بالايات و الاحاديث : وقور – محترم – مبارك – يجب الاستماع اليه – لا يمكن تصديق اي قول مخالف لصورته.
-          المثقف : متعالي – معقد – غير مهتم بمظهره الخارجي على الاطلاق – يحاول ان يخفى قلة ذكائه من خلال القراءة .
-          العلماني : فاجر – سكير – مادي – لايهتم بالاخرين – مقلد للغرب – معادي للاسلام ( فقط للاسلام لانه يطبق مؤامرة يهودية صهيونية عالمية لا يتصورها احد غيرنا )
بالاضافة للعديد من الانماط الاخرى التي قد نأتي للحديث عنها فيما سيأتي من المقال.
كما ذكرت منذ قليل علينا ان نتوخى الحذر في تعاطي تلك الشخصيات النمطية في الحياة بصورة مختلفة عن تعاطينا اياها في العمل الادبي او الفني , و لكن لماذا ؟ ان كان الكاتب قد اختار صورة نمطية لاحدى شخصيات عمله الادبي للتعبير عن طبيعة شخصية موجودة حقا في الواقع , فلماذا عندما نأتي للواقع ذاته علينا ان ننحي عقولنا الباطنة بصورها المسبقة جانبا و نبدأ في تحليل تلك الشخصيات تارة اخرى ؟

الاجابة في جملة واحدة هي انه عقلية الكاتب الكلاسيكي تختلف كثيرا عما يضمره او ما يعانيه المتخفون في الواقع خلف الصور النمطية , هؤلاء الذين اطلق عليهم في مقالي المقنعون.

المقنع هو ذلك الذي يرتدي وجها مزيفا لاخفاء حقيقة ما لغرض ما , و في هذا الموضع يصبح تعريفه هو ذلك المتخفي وراء صورة نمطية محددة لدى المجتمع من اجل اغراض تختلف تماما عما تقدمه طبيعة تلك الصورة , و سنتناول خلال مقالنا بعض الامثلة الهامة على المقنعون المتخفون بين افكارنا.

1-    المتخفون وراء الذقون و العمامات :
عندما ظهرت فكرة الدين في المجتمعات الانسانية الاولى و جد العامة انفسهم في حاجة ملحة الى من يعلمهم و يلقنهم امور و مظاهر هذا الدين خاصة بعد موت اصحابه الاولون ( الانبياء و من تبعهم ) , و من هنا جاءت فكرة الكهنة , فالكاهن هو ذلك الرجل الذي وضع على عاتقه مهمة تعليم قواعد و تقاليد الدين الذي ينتمي اليه , هو ذلك الذي نطلق عليه اليوم لقب رجل الدين.  شيخا كان او حاخاما او قسيس او حتى كاهنا من كهنة التبت , لكل منهم قيمته التي لا يمكن انكارها في مجتمعه و سواء اتفقنا او لم نتفق على ماهية تلك القيمة الا انه يجب علينا ان نتفق في النهاية ان لهؤلاء الرجال اتباعا في شتى بقاع الارض من مشارقها الى مغاربها , اتباعا استطاعوا بطريقة او باخرى مع مرور الوقت ان يحولوا رجال دينهم الى قديسين معصومين , ايقونات لا يمكن المساس بها , و استطاع هؤلاء الرجال ان يكونوا من اتباعهم جيوشا على اتم الاستعداد للتضحية بالمال و النفس من اجل شيوخهم , سلطة و قوة مطلقة يسيل لها لعاب الكثيرون.

تحولت صورة رجل الدين تاريخيا الى صورة نمطية لها فكرة مسبقة لدى عقول الملايين من الناس على مر العصور و الامكنة , فلقد كان لبابا روما على سبيل المثال سطوة عظمى على العديد من الامور الحياتية للمجتمعات الاوربية بداية من انشاء العرش الباباوي و حتى القرون الاخيرة نسبيا من الالفية الثانية , و التاريخ الاوربي حافل بما لا تستوعبه الموسوعات من احداث تعلقت بمن يجلس على العرش الباباوي. اموال تتدفق على خزائن البابا , سلطة اتخاذ القرارات السياسية بصورة مطلقة , التحكم المطلق في مقدرات الشعوب الاوربية على اختلاف انتمائتها , فلا انتماء اعلى من الانتماء الديني عند الكثيرين. و ان كانت طبيعة الاسلام قد تختلف في تلك النقطة حيث انه لا  يعترف بالنظام الكنسي الباباوي , الا ان الصورة ذاتها لا تختلف كثيرا عندما نأتي للحديث عن طبيعة رجال الدين في الاسلام من حيث اضفاء القداسة و المعصومية . فقام المسلمون بما قام به نظرائهم من اتباع الديانات الاخرى من تكوين صورة ذات فكرة محددة تعلقت بعقولهم على مر الالف و اربعمائة عام التي هي عمر الاسلام حتى يومنا هذا , و ان كانت المسألة لم تعد تتعلق فقط بمن يملك مقاليد الحكم الديني كما هو الامر في المسيحية بل صار يمتد امتدادا يصل الى حد تقديس ائمة المساجد الصغيرة.

للمقنعون في تلك النقطة تصنيفان , الاول هو ذلك الذي يستغل صورة التدين لغرض مادي ( سلطة ما – كسب مادي ) و هذا النوع يمتد ليشمل كل طبقات رجال الدين ( اقصد اي دين ) , و لذلك النوع من المقنعون سمات يجب ان يتصفون بها حتى يستطيعون ان يصلوا الى الحد المطلوب من اقناع العامة و تأكيد الصورة النمطية الموجودة في عقولهم , كما هو الحال مع النصاب , ذلك الذكي المتأنق حلو اللسان الذي يصل بك الى ان تلح عليه من اجل ان يأخذ ما في جيبك او ما تدخره , و لا يختلف الحال مع هؤلاء فانهم يملكون القدرات التي تؤهلهم لسلب عقول من يستمع اليهم و من ثم تطويعها للتحكم فيها و فيما تملكه بطبيعة الحال , و الامثلة على ذلك النموذج كثيرة رغم اختلاف مضمونها و يكفيك كبسة زر من ازرار جهاز التحكم عن بعد او اجراء بحث لا يستغرق الا ثوان معدودة على ( جوجل ) او ( يوتيوب ) حتى ترى شاشتك و قد امتلأت بوجوه ملتحية و جلاليب بيضاء , يحدثوك عن كل صغيرة و كبيرة في حياتك , يقنعوك بأنه ما من سبيل الى الله و جنته سوى من خلالهم , يرسمون على وجوههم ابتسامة وهابية , يمدون ايديهم الى عقلك ليعبثوا به , لروحك لافسادها و احيانا كثيرة لجيبك ليسلبوا ما تقع عليه ايديهم داخله .

و كما هو الحال في كل ما يتعلق بالحياة , كان للتطور اثرا كبيرا على تغيير ملامح تلك الصورة مع الوقت , حتى ظهرت صورة جديدة من المقنعون بالدين يختلفون شكلا و حديثا عن ارباب اللحي الطويلة , نوع لا يختلف في شيء عن اصدقاءك الذين تجالسهم كل يوم على المقهى , يرتدونون مثلك يتحدثون بطريقتك , مهندمون و متعطرون ,  قد لا يحملون ذات افكار منافسيهم من اصحاب الصورة التقليدية و ان كانوا يدورون في نفس المدار , و ان اختلفت طبيعة خطورتهم على المجتمع فانها لا تقل تأثيرا على عقول العامة من الباحثين دوما عن طوق النجاة الالهي , بل قد يزيد تأثيرهم على المجتمع لانهم يخاطبون الطبقة  او المرحلة العمرية الاكثر تأثيرا و حركة و هي طبقة الشباب , فلقد استطاع هؤلاء ممن يُطلق عليهم لقب الدعاة الجدد من جمع حشود من الشباب تفوق ما استطاع جمعه الدعاة التقليدين على مر الأزمنة .

ان كنا نريد ان نستوعب تلك الظاهرة بصورة اكثر عمقا علينا ان نتفق على نقطتين اساسيتين , الاولى هى ان الدين اصبح سلعة مثله مثل اي منتج يُعرض في الاسواق و المراكز التجارية , و الثانية هي ان تلك السلعة صارت سلعة رائجة و شديدة الانتشار في السنوات العشر الاخيرة على وجه الخصوص , و نستطيع ان نؤكد على صحة تلك الفكرة بالنظر الى كم القنوات الدينية الآخذة في الازدياد يوما بعد يوم , و كلما زاد عدد القنوات كلما زاد الطلب على من يقومون عليها من شيوخ العصر الحديث , لا يهم ان كنت تحمل إجازة من المؤسسة الدينية لا يهم ان كنت حاصلا على ما يؤهلك لفتوى الناس و التدخل في شؤون حياتهم , كل ما يهم هو انك تمتلك القدرة على جذبهم و سحر عقولهم , فلتقرأ كتابا او كتابين لاحد شيوخ السلفية القدامي ثم قليلا من التدريب على الصراخ و البكاء على احوال الاسلام ثم ( volia ) كما يقول الفرنسيون لقد اصبحت شيخا و ما عليك الا ان تصبر قليلا حتى ترى اتباعك و مؤيدوك و من ثم تلاحظ تضخم حسابك في البنوك .  و لقد استطاعت تلك القنوات في فترة وجيزة نسبيا ان تحقق نسب مشاهدة شديدة الارتفاع رغم انها تقدم خطابا دينيا يختلف كثيرا عن ما تقدمه المؤسسة الدينية الرئيسية في مصر ( الازهر ) , و ربما يرجع هذا لغياب دور تلك المؤسسة الحقيقي , التي تركت - بانسحابها و ضعفها الواضحين – المجال لاصحاب الفكر الوهابي المُمول ليملأوا حياتنا بافكار نظريات المؤامرة التي تحاك على الاسلام و المسلمين , تارة مؤامرات يحيكها الحلف الشيطاني " على حد زعمهم " الامريكي الاسرائيلي , تارة يتحدثون عن المد الشيعي , و مرات عديدة يتحدثون عن الاضطهاد الذي يعانيه المسلمون في اوربا و حتى داخل مصر , دائما ما يحاولون ايجاد الفرصة او حتى اختلاقها لوضع بذرة الخوف لدى العامة من اجل اقناعهم بتلك المؤامرات التي لن نستطيع مواجهتها الا بالدين.

اي دين ؟
ذلك الدين المختوم باختام السعودية الذي يدر على حساباتهم في البنوك الكثير و الكثير من اموال البترول , تلك العقيدة التي اتت بالطائرة التي تحمل علم المملكة , ليس ذلك الذي تحسبه قد بدأ و نشأ منذ ما يزيد عن الف و اربعمائة عام.
المقنعون الاكثر خطورة هم هؤلاء الذين يدسون السم بالعسل , هؤلاء الذين يريدون منك ان تنحي عقلك جانبا , من يحاولون اقناعك بأنهم يملكون مفاتيح الجنة و صكوك الغفران , من يحاولون ارجاعنا لالف و اربعمائة عام مضت بدعوى الحفاظ على تقاليد و اعراف الدين , بينما العالم ينطلق للامام بسرعة لا نستطيع حتى حسابها يريدون منك ان تقف للحظات قليلة امام باب حمامك لتقرر باي الاقدام تدخل و لتتذكر ما عليك ان تقوله و الا كان الجحيم في انتظارك .. فمن قال ان الطريق الى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة هو نفسه الذي قال ان الطريق الى حمامك يحتاج مثل كل هذا الجهد .
و للحديث بقية ......



ليست هناك تعليقات:

Facebook Badge