الثلاثاء، 4 يناير 2011

الطريق الى كنيسة القديسين - الجزء الاول


كان هناك مدينة تدعى الاسكندرية , كانت تقع على الساحل الشمالي لدولة كانت تسمى مصر , قد تشاهدون بعض معالمها القديمة بين الخرائب المنتشرة الان في كل انحاء تلك الدولة المنقرضة , و لكن نرجوا الساده السائحين توخي الحذر فلا تزال بقع الدماء متناثرة اثر معركة الفناء الاخيرة , و لا تزال رائحة الموت المنبعثة من الارض تزكم الانوف .. فنرجوكم اتباع تعليمات السلامة الصحية قبل زيارة تلك الاطلال التي كانت يوما ما تدعى مصر .

لم اقتبس الكلمات السابقة من رواية جديدة , و لا هي من سيناريو احد افلام الخيال العلمي .. لم تكن تلك الكلمات سوى تخيل لما قد يُكتب في احد الكتيبات السياحية مستقبلا .. فهل انا متشائم !؟ 

لا .. ليس للامر علاقة بالتشائم , بل انها محاولة لتوقع نتيجة واحد من السيناريوهات الممكنة .. بغض النظر عن تلك الاراء المتعالية بنبرة ان مصر بعيدة كل البعد عن هذا التوقع ( و انا شخصيا من اصحاب ذلك الرأي ) , و لكن دعونا ننحي ذلك الرأي – شبه الثابت – جانبا و لنحترم القوانين الديناميكية للطبيعة التي غيرت من توجهات و طبيعة المجتمع المصري فعليا على مدار خمسين عاما مضت .. و الاثبات على ذلك بسيط , فاذا ادرنا عجلة التاريخ لاربعينيات القرن الماضي و استطعنا ان نصل لكتيب سياحي مشابه لذلك التخيلي في اول المقال سنرى بما لا يدع مجالا للشك صورة شديدة الاختلاف , ليس فقط عن تلك التخيلية و لكن ايضا عن تلك التي نعيشها نحن الان على ارض الواقع .. سنرى مدينة استطاعت ان تجمع كل اعراق و ديانات الارض في صورة توافقية شديدة الاتقان , فلقد كان يكفيك ان تقف على كورنيش الاسكندرية لخمس دقائق فقط حتى ترى ذلك متجسدا امامك في وضوح تام .. ما الذي حول مصر اذا من تلك الصورة الداعية الى الفخر الى تلك الصورة المخزية التي قد تصيبك بحالة من الغثيان !؟

الطريق الى كنيسة القديسين ...

البذرة .. عصر السادات

في نوفمبر من عام 1972 وقع الحدث الاول من نوعه في تاريخ مصر .. حادثة الخانكه .. فكان الثمرة الاولى لما سمي فيما بعد باعمال العنف الطائفي , قبل هذا التاريخ لم تشهد مصر حدثا واحدا – على المستويين الفردي او الجماعي – مما قد يحمل ذات المعنى و التوصيف , و لكن كان لما فعله الرئيس الراحل محمد انور السادات ( الرئيس المؤمن ) اثره الشديد في خروج ذلك المصطلح الى النور .. بل ساعد بصورة مباشرة في ازدياد ذلك الاحتقان عندما وضع يده في يد الاخوان المسلمون و بالتبعية في يد من انشق عنهم فيما عرف بعد ذلك بالجماعات الاسلامية .. مما تسبب في العديد من حوادث العنف المنظم من تلك الجماعات تجاه المسيحيين , كان اخرها في عصر السادات ما حدث في يونيو 1981 ( حادثة الزاوية الحمراء ) و التي كانت مجرد حادثة عادية تحولت بفضل الجماعات الاسلامية الى واحدة من ابشع المجازر التي تعرض لها المسيحيون في تاريخ مصر الحديث  .. تبعها ما تعرض له السادات على يد ذات الجماعات في اكتوبر من العام نفسه عندما اخترقت جسده رصاصات خالد الاسلامبولي اثناء العرض العسكري للاحتفال بذكرى نصر اكتوبر 73 .

علينا ان نتوقف قليلا من الوقت لننظر بصورة اكثر شمولية لمصر في عصر السادات .. فلا نستطيع ان نجزم بأن اطلاق يد الجماعات الاسلامية هو المحرك الوحيد لما يسمى بالاحتقان الطائفي .. بل لا نستطيع ان نغفل وجود عناصر اخرى ساعدت بصورة مباشرة او غير مباشرة في زرع الروح الطائفية في مصر , منها على سبيل المثال تعديل وضع احد مواد الدستور الفرعيه لتصبح مرة واحدة المادة الثانية من الدستور المصري المعدل 1971 و التي تنص على ان الاسلام هو الدين الرئيسي للدولة و ان الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع الاساسي .. و قد كانت تلك المادة متواجدة فعليا في الباب السادس من دستور 23 تحت ما يمسى بالاحكام العامة و لم يكن لدى المسيحيين وقتها اي اعتراض يذكر عليها , و قد يرجع الفضل في ذلك لما كانت تعيشه مصر من اجواء ليبرالية على جميع مستويات الحياة المصرية .. و لكن عندما طُرحت تلك المادة مرة اخرى بوضع اخر لتصبح واحدة من اهم مواد الدستور في الوقت الذي كان يسعى فيه السادات لتحقيق شعبية على المستوى الجماهيري الاسلامي , عرف المسيحيون انهم في طريقهم للخروج من السياق العام .. تبع ذلك ما قام به النبوي اسماعيل ( وزير الداخلية المصري انذاك ) من تعطيل – اغلب الظن انه متعمد – لقرارات او وعود السادات للبابا شنودة ببناء خمسين كنيسة سنويا باوامر جمهورية مباشرة , و لكن ذلك الرقم لم يتحقق , بل قام النبوي باعادة تطبيق ما عرف باسم الخط الهمايوني العثماني الذي كان يطبق ابان الحكم العثماني لمصر .. نتيجة لتلك العوامل شعر الطرف الاخر ( المسيحيون ) بان هناك محاولة لاقصائهم بصورة او بأخرى من الحياة السياسية و الاجتماعية لمصر , و معاملتهم بصورة مباشرة على انهم اقلية ليست ذات اهمية ,  مما جعلهم في حاجه ماسة للالتفاف حول قائدهم الروحي الذي استطاع ان يناوش السادات في العديد من المرات بما سمي بالملف القبطي ..

كان لتلك العوامل التي اثراها عصر السادات ان تعمل في اتجاهين متضادين و ان كانا يحققان الهدف ذاته , فاطلاق يد الجماعات الاسلامية لتتغلغل داخل المجتمع المصري , اعطى فرصة ذهبية للعديد من المنتفعين من نشر افكار سوداء تحمل مرجعيات دينية دخيلة على طبيعة الخطاب الديني المصري , استطاعت ان تغير من طبيعة المصريين يوما بعد يوم , فاستغلت حقبة السبعينيات التي كانت بعيدة كل البعد عن المظهرية الدينية لتخلق بعض الخلايا السرطانية ممن يظنون انفسهم حماة الدين او حراس العقائد , لتخرج تلك الخلايا من مكمنها مكونة نواة الجماعات الجهادية التكفيرية التي كانت بدورها نواة لما عرف في اواخر التسيعينات بـ ( الجبهة الاسلامية العالمية لمحاربة اليهود و الصليبيين – القاعدة ) .. فلا تتعجب اذا اقترن اسم مصر و المصريين بأهم الاحداث الارهابية التي وقعت في العالم , فلقد كان رجال الجماعات الجهادية كنزا ثمينا لاسامة بن لادن لولاه لما كان هناك ما يسمى اليوم بالقاعدة .. و كان لذلك اثره الشديد على مجتمع ظن انه في حاجة لمن يعيده الي الصراط المستقيم , و لم يجد من يعيده و يقومه سوى امراء الجماعات الدينية .. الذين يؤمنون بالايات الجهادية و التكفيرية من مراجعهم الدينية التي تفخر بتكفير كل من يخالفها و بالطبع كان للمسيحين نصيب الاسد من التكفير و الاضطهاد .

عمل الاتجاه الثاني الى استكمال الصورة  مع الطرف الاخر .. طرفا رضي و احب ان يقوم بدور الضحية المغلوبة على امرها .. منهم من رضا بذلك الدور رغما عنه و منهم من اتقنه اتقانا شديدا خاصة امام حكام الغرب من اجل الاستجداء او الابتزاز .. فبعد القرارات و الاحداث التي تعرضنا لها منذ قليل ايقن المسيحيون ان هناك محاولات جادة من النظام الساداتي لتهميش دورهم و معاملتهم كأقلية لا تمثل اهمية للمجتمع المصري ( سنعطيكم بعضا من حقوقكم لاننا نريد ذلك ليس لانكم تستحقونها ) .. كانت سقطة للنظام المصري انذاك و لكن كان رد فعل المسيحيين سقطة تحسب عليهم .. فبدلا من محاولتهم فرض وجودهم السياسي و الاجتماعي كشركاء في الوطن , رضوا بانسحابهم كجماعة لم يبق منها على السطح سوى من يعمل لصالح السلطان , بينما اختبأ الباقون تحت عباءة الزعيم الروحي الذي وجد الفرصة سانحة امامه لفرض سيطرته على ما اسماه بشعب الكنيسة , سيطرة لم تكن فقط دينية .. وقتها حقا ظهر الصدع في المجتمع المصري بين مسلمين اخذين في التحول من فكر وسطي معتدل الى فكر سلفي متشدد و بين مسيحيين استطابوا العيش كأقلية تنظر الى الاغلبية نظرة الخائف الكاره المذعور .. كلاهما مخطيء و كلاهما ضحية .

مصر تحت حكم الارهاب .. دخول السجن الوهابي

انتهت مرحلة السادات لتدخل مصر في عصر مبارك .. كان يحاول الرئيس الجديد انذاك ان يصلح بعضا مما افسدته الانظمة السابقة ,كان على رأسها و اهمها من حيث الشأن الداخلي ملفات الجماعات و التطرف الاسلامي و الاقباط .. لم يكن يستطيع مبارك ان يقطع رؤوس الارهاب بضغطة زر من مكتبه فور توليه ,  فلقد استطاعت الجماعات الاسلامية مع الوقت ان تجند مئات الشباب المسلم ممن يعانون الجهل و الفقر حتى يصبحوا جنودا يكفرون مجتمعهم يبتغون جنة زائفة , الطريق اليها مفروش بجثث ابناء الشعب المصري .. تحت قيادة عقول عادت من العصر الجاهلي بافغانستان و بتمويل من العديد من الجهات المتباينة تباين يدعو الي التعجب , استطاع جنود الارهاب الجدد ان يلطخوا الشوارع المصرية بدماء ابناء مصر من الجانبين , فكانت مرحلة اواخر الثمانينات و حتى اواخر التسيعينات من القرن العشرين مرتعا لجماعات مثل الجهاد – التكفير و الهجرة – الجماعة الاسلامية , جماعات تحمل مرجعيات تدعو الى القتل و استباحة الدماء , لم تفرق في جرائمها بين مسلم و مسيحي بين اجنبي و مصري , استطاعت ان تُفعل المواجهة المباشرة بينها و بين الشعب المصري من ناحية و بينها و بين الجهاز الامني من ناحية اخرى .. و يُحسب لتلك الجماعات انها – عن دون قصد بالطبع – ساعدت على اخماد صورة الاحتقان الطائفي خاصة من ناحية الجانب المسلم من الشعب المصري , فرغم انها رسخت فكرة اقتران التطرف بالاسلام الا انها بعدم تفريقها بين اهدافها في المجتمع المصري اعطت المسلمون في مصر شعورا بالسخط و التذمر لافعال تلك الجماعات الاجرامية , بينما ظل المسيحيون واقعين تحت شعور بالخوف صار دائم التأصل .. فعاشت مصر في تلك الحقبة اسوأ اعوامها على الاطلاق , عاشت خائفه مترقبة لانفجار هنا او اطلاق رصاص عشوائي هناك .

لم يكن المسيحيون في تلك الفترة بمنأى عن الارهاب فلقد كان استهداف مصالحهم و دور عبادتهم من احد اولويات تلك الجماعات الارهابية , الا ان استهداف تلك الجماعات لمن كفر و رجع عن دين الله من المسلمين ( على حد زعمهم ) اعطى نوعا من التضامن بين شريكي مصر , فاذا كان هناك عمليات استهدفت المسيحين فان اكثر العمليات استهدفت المصريين على السواء , فلم تكن مصر في تلك المرحلة تعانى من احداث عنف طائفي على المستويين الفردي و الشعبي فلقد كان جرح الارهاب واحد و اختلطت دماء المصريين على ارصفة مصر و شوارعها .. و لكن رغم ذلك كانت تلك المرحلة هي احد المراحل بالغة التأثير في طبيعة الشعب المصري .

السلفيون .. الاخوان .. الصحوة .. النظام و اشياء اخرى.

بعدما انتهى عصر الارهاب نظريا في نهاية التسعينيات بما سمي بالمراجعات الفكرية للتنظيمات الاسلامية وماتبعها من مبادرات نبذ العنف و الاعتذار الرسمي , حدث اختلاف و تغير جذري في العديد من نواحي الحياة الاجتماعية و السياسية في مصر منها :

بعد ان حُل عقد الجماعات الاسلامية استطاعت الجماعة الام ( الاخوان المسلمون ) من استعادة السيطرة على المجتمع الاسلامي بمصر مرة اخرى .. فلقد شعر الشارع المصري المسلم بحاجة ملحة لمن يعيده الى الطريق القويم في تحول عجز البعض عن فهم طبيعته .. فكان توقع الكثيرين ان مسلمي مصر سيحاولون اعادة ترتيب افكارهم و الاتجاه الى الفكر الليبرالي المتسامح بعد ان عانت مصر من تطرف الاصولية الاسلامية و لكن ما حدث كان العكس .. استنادا على بعض النظريات النفسية التي تقر بأنه في بعض الاحيان يحدث ارتباط نفسي وثيق بين الجاني و ضحيته او بين الرهائن و محتجزهم , ارتبط مسلمي مصر بصورة غير مباشرة بالجماعات الاسلامية المتطرفه , فشعر المسلمون ان تولد الارهاب لم يكن نتيجة مرجعية متطرفة مستندة على احكام اصولية تحفل بها الاديان بصورة عامة , بل كان نتيجة بعدهم هم عن الطريق القويم للاسلام .. سخطا و غضبا من الله .. فحاول الشارع المسلم ان يجد طريقه الى الاسلام مرة اخرى , و كانت تلك هي احد الفرص الذهبية التي لطالما لاحت للاخوان المسلمون على مر تاريخهم .. فعلى مدار فترة الارهاب في مصر استطاعت جماعة الاخوان ان تستغل الموقف تارة باعلانها تنكرها و عدم مسؤوليتها لما يحدث ( فتحافظ على بقائها حية وسط الاعصار ) و تارة بتجنيدها المزيد من الشباب المسلم الذي اعجب بفكرة العودة الى اصل الدين و لكنه لا يقوى على العنف , فاستطاعت الجماعة ان تعيد بعثها الى الحياة السياسية و الاجتماعية بمصر من جديد , عن طريق محاولاتها خوض الانتخابات التشريعية او عن طريق اعمالها الاجتماعية التي انتشرت في كل انحاء مصر .. وجد النظام المصري نفسه واقعا في مأزق بين شعب يحاول جديا ان يغير من سلوكه ليعود الى الطريق القويم ( من وجهة نظره ) و بين جماعة لها تاريخها السياسي تحاول ان تستغل ذلك التحرك الشعبي من اجل تحقيق اهداف سياسية سلطوية لن تكف عن التفكير فيها .. فكر النظام وقتها في هؤلاء الذين يدعون بانهم لا يبغون سوى وجه الله من اعلنوا رفضهم العمل السياسي و رفضهم الخروج عن الحاكم .. فرقة من الاسلام استطاعت على مدار اكثر من مائة عام ان تكون جيوشا جرارة من المسلمين المتشددين الجدد , مستندين الى كلمة فضفاضة ( السلفية ) ممولين بما تيسر من اموال البترول , حاملين لواء جديدا يُكفر حتى من اختلف معهم من الفرق المسلمة الاخرى .. انهم السلفيون الوهابيون .    

في الجزء الثاني نتابع السير في الطريق الذي ادى بنا الى الوقوف امام كنيسة القديسين في انتظار انفجار حتمي كان لا بد له ان يحدث .. محاولين ان نستشف صورة المستقبل الذي نريده لا الذي يريد لنا البعض ان نسير فيه .




..
share it

..

ليست هناك تعليقات:

Facebook Badge