الأربعاء، 16 مارس 2011

الشارع لمين ؟؟

"هو ميدان التحرير مش مكتوبله ينضف بقى!! " كانت تلك اولى كلمات سائق سيارة الاجرة التي كانت تقلني من وسط المدينة الى منزلي يوم الجمعة الماضية, توقعت ان تلك الجملة ماهي الا افتتاحية بسيطة لهجوم على الثورة سيعقبه نقاش لن ينتهى الا بنزولي من السيارة, فأثرت الصمت منتظرا منه ان يُكمل هجومه, و لكنه صمت قليلا ثم نظر الى المرآة و كأنه يريد ان يتأكد من انني لست نائما ثم قال منبهاً "انا منزلتش من يوم التنحي خلاص قلت كده كفايه", ليس من المعارضين للثورة اذا. اعتدلت في جلستي قليلا لأظهر انتباهي لما يقول فبدأ في سرد نوادره عن ايام الثورة و كيف كان يزور الميدان يوميا ليمد اقربائه المقيمين في الميدان بالأطعمة و البطاطين, و بدا عليه الفخر حينما تحدث عن تواجده يوم موقعة الجمل الشهيرة و مواجهته للهجوم مع من واجهوا, اردت ان اقاطعه مستغلا تلك النقطة لاسأله سؤالا اخذ يرن في رأسي منذ بداية حديثه فأخبرته انني لم انل شرف حضور تلك الواقعة لانني غادرت الميدان صباح الاربعاء قبل الهجوم, و قبل ان يتحدث ثانية عاجلته بسؤالي: ان كنت قد شاركت في الثورة و عن اقتناع, فلماذا اذا لا ترضى عن تواجد المتظاهرين الى اليوم ؟

اجابني بقول معناه ان المسألة قد تخطت ميدان التحرير, ثم استرسل في قص حواديته قبل ان يعطيني الفرصه لمناقشته في تلك الجملة, فظل يتحدث عن يومياته الثورية ثم عن الظلم الذي تعرض له احد اقربائه قبيل الثورة و انتهى به الحديث عن مواجهته لزوجته لاقناعها ان وائل غنيم ليس ماسونيا, و ان كان, فانه ليس الثورة. و كما توقعت لم يتوقف عن الحديث الا عندما طلبت منه التوقف بالسيارة لوصولي الى حيث اريد. اعادت كلمات هذا السائق كل الجدليات و النقاشات التي اتعرض لها يوميا في كل مكان, فلا صوت يعلو في مصر فوق صوت ثورة مصر, تلك النقاشات - التي لا يوجد بين اطرافها ناشط سياسي, او مدون و كاتب فيسبوكي ولا حتى اعضاء في احزاب- شديدة التنوع و الثراء, و لقد اثبتت بالنسبة لي ان الشعب المصري يريد حقا ان يفهم و ان يشارك في الحياة السياسية حتى او كان وعيه لم يكتمل بعد.

قد لا يتسع الوقت لاقص عليكم المزيد مما تحتويه تلك النقاشات و لكنني ساحاول التعرض الى بعضها بأختصار من اجل ايضاح الغرض الذي ابتغيه من هذا المقال.

"الناس دي مش هتهدى غير لما كل واحد يمسك وزاره بقى" بينما ينفث من انفه دخان الشيشة, نطق احد مرتادي المقهى الواقعة تحت منزلي بتلك الجملة معلقا على المظاهرات التي كانت تطالب بأقالة شفيق الاسبوع قبل الماضي, و ما ان تحولت الاخبار لتتعرض للاعتصامات الفئوية نظر الي و قال "اهو دي المطالب المعقوله .. لما حد يطلب ان مرتبه يزيد او يتثبت في شغله اهم, ولا انه كل شويه يقولك نغير وزاره اهم؟ ولا انت رأيك ايه يا باشمهندس؟؟" قال الكلمات الأخيرة ليدعوني الى نقاش كنت اتلهف اليه منذ ان قال تعليقه الاول على الاحداث, و خلال نقاشنا اكتشفت ان وجهة نظره صحيحة اذا وضع احدنا نفسه مكان الرجل, فلقد استطاع ان يصل الى استنتاجاته من خلال قراءته و تحليله الشخصي للأحداث, قد يكون مخطيء و لكنه على الاقل حاول و اتخذ جانبا من النقاش لا ينم عن مصلحة او غاية شخصية.

بالصدفة البحتة استطعت ان استمع اليها و هي تصلي, هي .. سيدة عجوز تحولت من اهتمامها اليومي باحتياجاتها الشخصية البسيطة الى اهتمام دائم و مستمر بحال الوطن الذي يسطر صفحة جديدة في تاريخه, كُتب لها ان تكون شاهدا على تلك الصفحة. فوجئت عند اكتشافي انها تعلم الكثير, فوجئت اكثر من قدرتها على تحليل المواقف, دُهشت عندما رأيتها تقدم كل ما تستطيع من اجل الوطن .. الدعاء. فبعد اتمامها شعائر الصلاة شرعت في الدعاء, لم تدعو لنفسها او ابنائها, لم تدعو لصلاح حال المسلمين او لتنال زيارة للاماكن المقدسة, كان دعاءها مُنصب فقط على مصر. فتلك السيدة العجوز التي لم يكن في استطاعتها بطبيعة الحال ان تقف في مظاهرة, و لن يأتي اليوم الذي ترتدي فيه افضل ملابسها لتقف امام كاميرات التليفزيون او لتجلس على منصة حوارية تتحدث فيها عن الثورة و مكتسابتها, و لا تبتغي بالتأكيد منصبا في جمعية او حزب. كل ما تريده و تبتغيه هو مصلحة الوطن الذي تعيش على ارضه و تأكل من خيراته, رأت ان كل ما تستطيع ان تقدمه من مساعدة للوطن هو الدعاء, و لم تتأخر لحظه واحدة في تقديمها تلك المساهمة.

اعلم عنه تدينه الشديد, فلا يترك فرضا و لا يستطيع ان يفوت فرصة الاعتكاف في المسجد اواخر شهر رمضان, هو في رأيي يمثل صورة المتدين الوسطي, فلا تفارق شفاهه القفشات و النكات و لا يعامل المسيحيون معاملة تختلف عن اصدقائه من المسلمين, يؤمن بضرورة اقامة دولة يحكمها شرع الله و لكنه مقتنع في الوقت ذاته انه لا يوجد من البشر من يمكنه ان يطبق تلك الشرائع, و عليه فانه لا يرى ضرر في تطبيق القانون المدني الوضعي لحين تهيئة المجتمع لوضع يتناسب مع حكم شريعة الاسلام (من وجهة نظره). رغم انه جارى منذ سنوات عديدة الا ان علاقتي به لم تتوطد الا مساء الخامس و العشرون من يناير عندما كنت عائدا من الميدان بعد منتصف الليل, ندم الرجل على عدم مشاركته في الثورة يدفعه بحماس و جموح الى محاولة تقديم ما يمكنه تقديمه من اجل الحفاظ عليها, دائم السؤال لرغبته في الفهم و الاستيعاب. قد يظن ان البعض ان مثل هذا النموذج قد يندفع وراء الاخوان نظرا لانهم الممثلون للتيار الديني السياسي, و لكنه ادهشني عندما اقر في اكثر من مناسبة انه لا يرى في الاخوان ممثلا يستحق ان يقود مصر في اي من المراحل, فعدم اقتناعه بهؤلاء الذين يتخذون من الدين ستارا من اجل تحقيق مآربهم جعله يؤمن بضرورة الوصول الى حكم ديموقراطي حقيقي في البلاد. يقدم ها الرجل صورة مغايرة تماما لتلك التي يظنها من يطلقون على انفسهم نخبة في الشارع الثقافي السياسي.

تقودني تلك النماذج البسيطة الى التفكير فيما اوصلتنا اليه الثورة حتى الان, اولى و اهم مكاسبها .. صحوة المصريين و اهتمامهم بالشأن المصري للمرة الاولى في تاريخهم. و تقودني ايضا الى الاعتراف بأن دور النخب و المثقفين لم يرتقي الى المستوى المطلوب حتى الان, فلم يكن هؤلاء على قدر المسؤولية التي تؤهلهم لقيادة الشارع المصري المتلهف لمعرفة حقائق الاحداث. فالاحزاب المصرية المترهلة لم تحاول ادنى محاولة للوصول الى رجل الشارع العادي, بينما ينشغل اصحاب المنظمات بالحوار و المشاورات فيما بينهم او البحث عن تمويل خارجي بينما يحتسون الشاي و القهوة منتظرين للديموقراطية ان تصل اليهم داعية لهم لارتقاء المناصب و المراكز, في الوقت الذي يقترح فيه المثقفون رأيان لا ثالث لهما اما ان يُعدم المثقفون ليرتاح منهم العامة او العكس دون النظر الى وجود حل ثالث و هو ان يندمج هؤلاء "المثقفون" مع الطبقات العامة من الشعب الذين يمثلونه كما هو مُفترض.

ذلك السائق الذي تعرضت له في بداية المقال لم يشارك في الثورة المصرية جراء دفعه من خلال الفيسبوك .. رجل الشيشة على المقهى لم يكون وجهة نظره بعد خروجه من لقاء جماهيري جمعه و من معه بأحد القادة او النخب .. تلك المرأة البسيطة لم و لن تكون عضوة في احدى منظمات المجتمع المدني .. اما جاري العزيز فعهده بالسياسة بدأ فقط يوم التاسع و العشرون من يناير ( على حد قوله ) . كل من هؤلاء يحمل رؤية و جهة نظر يجب ان تحترم كما يجب ان تُستغل من اجل النهوض و الرقي بهذا المجتمع, فقط الاخوان و السلفيون يستطيعون الوصول الى هؤلاء, اما غيرهم فلم يعد يملك سوى البكاء و النحيب على الفيسبوك خوفا مما يفعله الاخوان و السلفيون في الشارع المصري .. دون تحرك يذكر ؟ نعم دون اي تحرك يذكر.

فالتحذير من المنشورات التي تقوم الجماعات الاسلامية بتوزيعها من اجل حشد الافراد لا يعد تحركا ايجابيا .. اعلان الوصاية من مجموعة من الافراد على الشعب المصري دون النزول للشارع و مخاطبة افراد هذا الشعب لا يعد ايضا تحركا ايجابي .. الدعوة الى مليونيات من خلال الفيسبوك فقد ايجابيته مع الوقت .. المحاورات و المشاورات الداخلية بين اصحاب الفكر الواحد دون الاحتكاك بالأخر لن يكون ابدا تحركا من اي نوع .. رغبة المثقفون و "النخب" في الانعزال عن الشارع المصري هو قمة التخاذل و السلبية .. الشارع المصري اصبح في لهفة و شوق للمعرفة و التواصل مع كل التيارات السياسية, اصبح يبحث بنهم شديد عن الحقيقة.

لقد قامت الثورة المصرية من الشعب و من اجل الشعب, و لأجل هذا الشعب علينا ان نتواصل معه و ان نتحمل تساؤلاته و شكوكه و ان نأخ بيديه من اجل الارتقاء به و تحقيق الهدف الرئيسي للثورة و هو التغيير الجذري .. و قتها فقط نستطيع ان نقول و بكل ثقة ان الشارع لنا.



share it

ليست هناك تعليقات:

Facebook Badge